شبكة قدس الإخبارية

هل يُصلح يوم الأرض ما أفسده المال والاحتلال؟

حمزة العقرباوي

تتسارع الجموع الفلسطينية لإحياء ذكرى يوم الأرض، شاحذة همتها لغرس بعض الأشجار وصائحة باسم يوم الأرض الفلسطيني، مُستذكرة شهداء 30 آذار من عام 1976 في قُرى الجليل، وهبّة فلسطين رفضاً لمشروع صهيوني يهدف لمصادرة 21 ألف دونم من الأراضي تحت شعار "تطوير الجليل"، ونسمع ضجيج الخطابات من كُل فجّ وتزدحم الطرقات بالشعارات واليافطات المُمجدة لهذا اليوم.

ويصرخ الحادي مُنشداً بيتاً من العتابا يُثير الحماس:

ليوم الأرض يا هالعرب عِدّوُ .. بني صهيون عا سخنين عَدّوُ

ســتَ شـهـداء من لـبلاد عدّو .. و قنابلهم بعـرابة العـز لـَهـب

إن ما نفعله من فعاليات في يوم الأرض مهم لكنه لا يضع اليد على الجُرح، ولا يسعى لترميم العلاقة بين الإنسان والأرض، تلك العلاقة التي أسهم في هدمها الاحتلال واستكمل رأس المال الجشع في تخريبها وتشويهها.

فطوال 41 عاماً ونحن نُحيي يوم الأرض ونصرخ باسمه ونستذكر هذا اليوم وندّعي تمسكنا بالأرض وأننا نحافظ عليها ونصونها من جشع وسرقة الاحتلال الصهيوني، وكي يصدق قولنا فعلنا نُسارع لغرس أشتال الزيتون أمام الكاميرات، ونُنهي نشاطنا وبشائر النّصر تلوح في وجوهنا، ذلك أننا غرسنا بذار صمودنا في الأرض.

لكن، هل قال أحدٌ منا يوماً: تعالوا نستمع لما تقوله الأرض؟ كم كسبنا من الأرض وكم خسرنا بعد واحد وأربعين عاماً على ذكرى يوم الأرض؟ وماذا فعلنا للأرض؟ وأيُّ عطاء وتغيير أحدثناه في الأرض؟.

إن حُبّ الأرض والانتماء لها لا يقوم على التغني بها والقيام ببعض الفعاليات التجميلية، في وقتٍ يَنخِرُ سُوس التَّخريب في جَوهر علاقتنا مع الأرض، ونفسد باسم التطوير والحداثة روح الأرض وطبيعتها.. أولم تكن الأرض أغلى من العرض كما يقول المثل! أو على قولهم "بيّاع أرضه ضَيّاع عَرضه"، فهل بقيت الأرض هي ذاتها اليوم بعد مرور 41 عاماً على ذكرى يوم الأرض؟.

فلسطينياً تحولت الأرض إلى استثمار ومصدر للغنى الذاتي وصار من السهل التفريط بها لصالح أكوام الإسمنت العملاقة، وتجرأنا على اقتلاع أشجار عُتقيّة مُعمرة يزيدُ عُمرها عن ألفين عام، ولم نَرَ غضاضة في تجريف الحقول وتدمير السهول لصالح العمران التجاري، واكتفينا بغرس شجرة زيتون يُؤتى بها عُنوة لتغرس بوقاحة وسط دُوار كتب عليه "تبرع من الشعب الأمريكي"!.

ونخرج صارخين حدّ الانفجار باسم يوم الأرض، ونخاطب الاحتلال بأننا باقون ومتجذرون كشجر الزيتون، وكأننا لم نصفق قبل أيام في حفلٍ مَهيب لمستثمرٍ عَمِدَ إلى تشويه الأرض واقتلاع أشجار مُعمرة ليقوم مكانها أبراج ومدن لا تُشبهنا.

إن الذين خرجوا في هبة الجليل عام 76 إنما خرجوا لأجل الأرض التي كانت بالنسبة لهم الحياة والأمل بقيمتها وروحها وليس بثمنها كاستثمار مادي يقوم على الجشع وحُب التملك، خَرجوا ولسان حالهم يقول: "إن جار عليك الزمن جُود عَ الأرض، مُش بيعها واستغلها لأجل وهم التطوير والحداثة"، خَرجوا وهم يُؤمنون بأن "للأرض من كاس الكرام نصيب" ولذا جادوا بدمائهم لأجلها.

الأرض في ذكرى يوم الأرض لا تحتاج إلى فعاليات بقدر ما تحتاج ليد فلاح يمسك بيده المحراث مؤمنا بأن "من لا أرض له لا هوية له". فأي قيمة لكل ما نفعله من فعاليات تضامنية مع الأرض وقد فقدنا علاقتنا الطبيعية معها، ولم تعد نظرتنا للأرض كما كانت قبل موجة الحداثة الخادعة واللهاث خلف الوظائف على حساب الأرض والزراعة.

وإن كان لنا أن نستمع - ولو لمرة واحدة- لما تقوله الأرض في يومها فإنه جديرٌ بنا أن نصون ذاكرة الإنسان والأرض وأن نطوق بكلتا ذراعينا الأرض كقيمة ننغرس فيها ونمنع عنها شراهة وجشع رأس المال الذي يُخربها ويجعلها سلعة للاستثمار المُشوّه.

فهذه الأرض التي شهدت ميلاد أقدم الحضارات وعرفت الزراعة قبل 10 آلاف عام صانها الأجداد بإيمانهم بها وبعلاقتهم الواعية لطبيعتها وبفهمهم لكيفية التعايش معها وتطويعها لخدمتهم دون تشويهها وتدميرها.

وقد أُحسن الفلاحون فهم لغتها وطبيعتها بحكمة ودون تخريب لها ولما فيها من خيرات وتنوع مُتكامل، وكانَ يُنظر لها على أنها عَرضُ الفلاح وشرفه، ولأجل ذلك كان يستسهل أن يموت دونها وهو يُدرك عِظَمَ ما يفعل.

وبتنا في الآونة الأخيرة نسمع أصواتاً كثيرة في العالم تُطالب بوقف تخريب الأرض وتدميرها وتشويه علاقتنا معها، تلك العلاقة التي دامت آلاف السنين دون أن نفقد الأرض كقيمة حقيقية وكروح تمدنا بالحياة.

وكفلسطينيين ندرك بأننا بلا وطننا وأرضنا لا شيء، فنحن أولى بأن نصرخ بأعلى صوتنا كي نوقف نزيف التخريب والتدمير للأرض التي جادت علينا بكل شيء، فلنستمع للأرض ولو لمرة واحدة.

واليوم وبعد واحد وأربعين عاماً على ذكرى يوم الأرض نقول: إذا كان التخريب والتشويه والتدمير لهذه الأرض أمرٌ لا مَفر منه في طريق "الحداثة والتطور" فمرحباً بمعاول الهدم وأهلاً بالرجوع إلى عصر البداوة.