شبكة قدس الإخبارية

حكايات من ذاكرة الانتفاضة الأولى

160744484366461
حمزة العقرباوي

كان لحادثة الاعتداء على أربعة عمال عرب في 6 كانون الأول عام 1987، من قبل صهيوني يقود شاحنة في مخيم جباليا بقطاع غزة دورُ الخميرة التي أنضجت الظرف الثوري في فلسطين لتشتعل الأرض تحت أقدام المُحتلين.

وعلى الرغم من مرور 30 عاماً على تلك الانتفاضة، ورغم ما تلاها من بطولات وانتفاضات وهبات شعبية فلسطينية كهبة النفق عام 1996 وانتفاضة الأقصى، وهبّة الساكين وليس أخيراً هبّة الأبواب في القدس، إلا أن الذاكرة الجماعية الفلسطينية لا تزال تُؤرخ لهذه الإنتفاضة كحجر الزاوية في تاريخها النضالي ضد الاحتلال الصهيوني، تماماً كما في ثورة ال36 والتي تعتبر النموذج الثوري الأول لمجموع العرب في فلسطين. وتكاد تكون هذه الانتفاضة أساساً في تشكل الهوية الثورية لعموم الجماهير في الأرض المُحتله، وذلك نابع من شمولها كل فلسطين وفعاليتها ونجاح أدواتها الجماهيرة.

وإذا كانت المؤسسات والباحثون والمهتمون بالانتفاضة عَنوا واهتموا  بتتبع يوميات الإنتفاضة ورصد الأرقام وتوثيق الأحداث، فإن ذاكرة الجماهير الفلسطينية اهتمت بدرجة اولى بحكايات الانتفاضة وقصصها المُتنوعة والتي أسهمت في لحظتها بصناعة البطل، وخلق التصور الجماعي عن الثائر الذي يهزم الاحتلال، وكانت هذه الحكايات تنتقل بين الناس أسرع من انتقال النار في الهشيم، وتروى للتحفيز على مواصلة الثورة والإبقاء على صورة الفلسطيني البطل الذي لا يُقهر أما بطش الاحتلال وسياسته في قمع الانتفاضة ومنع استمرارها.

لقد خلق الفلسطينيون أساطيرهم الجديدة وصارت تروى حكايات خُرافية مُعاصرة مصدرها الجموع الثائرة على الاحتلال، فظهرت حكايات أشبه بالحكايات التراثية الخرافية يتم تناقلها بنوع من التصديق والايمان المُطلق في حدوثها، تماماً كما خلقوا قوانين للانتفاضة وطعام الانتفاضة، وتعليم الانتفاضة، وأعراس الانتفاضة. حتى أن الانتفاضة الشعبية غيرت من طبيعية الحياة اليومية وأدخلت مفاهيم قِيَمية جديدة على المُجتمع.

وصرنا نسمع عن حكايات وقصص الانتفاضة، ونكت الانتفاضة، وهتافات الانتفاضة، وشعارات الانتفاضة، وأغاني الانتفاضة، وهي أشكال أدبية جديدة دخلت حياة الناس ووجدت نفسها تتربع على تراثنا الثوري الذي لا يزال غنياً ويحظى باهتمام وحيوية سردية، لم يمل الناس من ذكرها والافتخار بها حتى اليوم.

حكايات الانتفاضة على تنوعها وتعدد أشكالها استطاعت أن تخلق صورة البطل المُقاوم على اختلاف جنسه وعمره، فنجد في هذه الحكايات الأبطال من كل الأعمار والأجناس، حيث صار للجماهير بطل مُلهم قادر على بعث الأمل لهم في الانتصار على الاحتلال وكسر الصورة التي خلقها لجيشه بأنه: (الجيش الذي لا يُقهر)، وصارت الجماهير تروي قصص شعبية تُؤسس لفن جديد في أدب المُقاومة، وهو فن لا يقوم على النُّخبة وإنما تحمله الجماهير الشعبية وترويه بين كُل الأوساط .

  ولعلّ من أوائل من تنبه لأهمية هذه الحكايات التي يخلقها المجموع الفلسطيني ويرويها كقصص وحكايات شعبية، الدكتور شريف كناعنة الذي بدأ في العام 1988 بتوثيقها وتسجيلها، مُصنفاً إياها بأنها حكايات خرافية مُعاصرة أو أساطير مُعاصرة.

 وفي مقابلتي مع الدكتور كناعنة  ذكر لي بأنه جمع في حينه بمساعده طُلابه أكثر من 500 حكاية من حكايات الانتفاضة، وبحسب كناعنة فقد كان لهذه الحكايات ميزات جعلتها تتحول لحكايات شعبية، ومن ذلك تناقلها من راوٍ لآخر مع غياب راويها الأول، وما تعرضت له من الزيادة والبلورة أثناء التناقل الشفهي، لتصبح حكاية كُل الناس.

 وهذه الحكايات المُتنوعة تأخذ طابع جدي وهزلي وخرافي ونكات أحياناً، وتقدم صورة الفلسطيني كبطل ينتصر بالحيلة والذكاء والشجاعة والإصرار على حقّه، وتظهر جيش الاحتلال كمهزوم وغبي.

ومن هذه الحكايات:

1-  في أحد المظاهرات  حدثت مُشادة كلامية بين إمرأة وجندي صهيوني، فطلبت المرأة من الجندي أن يضع سلاحه جانباً ليواجهها، فضربته وطرحته أرضاً، فأخذ يصرخ ويستنجد بالجنود ليخلصوه من بين يديها.

2- أنجت أحد النسوة وأثناء خروجها من المستشفى، أوقفهم الجيش على الحاجز، وبدأوا بتفتيش أيدي الرضيع، فسألت الأم الجندي بعصيبة عن السبب؟! فقال لها بجدية: (بدي اتأكد انه مش زامم حجارة في ايده).

3- اعتقل جيش الاحتلال أحد المُقاومين، وطلبوا منه في التحقيق أن يعترف عن مكان سلاحه، فقرر أن يخدعهم ويهرب منهم، فاعترف بأنه يخفيه بأحد المغر في منطقة نائية، فقام الجيش بحمله في الجيب والتوجه للمنطقة وأنزلوا داخل هذه المغارة الكبيرة، وكان لهذه المغاره سرداب ينقلك للطرف الآخر من الجبل، وهكذا تمكن الرجل من الفرار من الجي

4- الاحتلال اعتقل طفلاً عمره 5 سنوات، كان يُلقي عليهم الحجارة، وسألوه عمَّن يُحرضه ليلقي الحجارة عليهم؟ فقال لهم بأن أخوه محمد من يرسله لذلك. فقام الجيش بحمله في الجيب وطوقوا بيتهم لاعتقال محمد. وكانت المفاجأة أن شقيقة محمد رضيع لا يتجاوز عُمره السنيتن.

5- مجموعة من الأطفال في المخيم أمسكوا بقط وربطوا برقبته (طابة) نايلون، ورموه داخل معسكر لجيش الاحتلال، وصار القط يجري مذعوراً داخل المعسكر. ولما رآه الجيش اعتقدوا بأنه مفخخ، وبدأوا بملاحقته لاعتقاله خوفاً من انفجار القنبلة. وطوال الليل وهم في استنفار حتى أمسكوه، وقد أوتي بخبير المُتفجرات ليكتشف بانها خُدعة من الأطفال، وهنا قام الجيش باطلاق النار على القط ورميه ع سياج المخيم. فقام الأطفال بحمله على خشبه ومشوا به في جنازه وهم يهتفون:

يا شباب التموا التموا والبس ضحى بدمه

يا شباب انظموا الينا والبس غالي علينا

6- إمرأة فلسطينية كانت حامل وتريد أن تنجب، وكان هناك منع للتجول، فأخذها جيش الاحتلال للمستشفى، وكانت حامل بتوأم، فلما نزل من بطنها الطفل الأول وشاهد جنود الاحتلال، صرخ على أخيه الذي لم ينزل  بعد من بطن أمه: (ولك فيه جيش! مطوقة مطوقة ناولني حجر).

7- في أحد القرى خرج شاب لتوزيع بيانات الانتفاضة، فسقط وكسرت قدمه، فلما أفاقت والدته على صوته أدخلته للبيت، وانتبهت للبيانات المتناثرة أمامه، فقامت بجمعها، وبعد أن نام ابنها خرجت بنفسها ووزعت البيانات ورجعت ع للبيت.

8- في أحد المظاهرات أطلق جيش الاحتلال النار وأصابوا واحد من أنشط شباب الانتفاضة، فحملوه للمستشفى وكانت الرصاصة قد دخلت من صدره وخرجت من ظهره. وبعد التصوير والفحص تبين أن الرصاصة لم تمس أي جزء من جسمه بسوء.

9-  أجبر جنود الاحتلال أحد الأهالي على طمس شعارات الانتفاضة باللون الأسود، وسلموه علبة دهان وغادروا، وحين عادوا وجدوا الشعارات كما هي. وقد قام الرجل بطلاء باب بيته القديم وتزينه باللون الأسود.

10- اقتحم جيش الاحتلال أحد القرى ووقفوا أمام مطعم فلافل، وكان هناك شعارات مكتوبة على الواجهة وتحتها توقيع (م.ت.ف) فاستدعوا صاحب المحل لمحوها، وطلبوا منه أن يقول لهم ماذا تعني هذه الأحرف؟ فقال لهم هذه تعني: (ممنوع تقلي فلافل) فتركوا الشعار وغادروا.

 إذن هذه مجموعة متنوعة من حكايات الانتفاضة التي يحمل بعضها طابع النكت الساخرة والتي تُحاول اظهار الفلسطيني كمنتصر وقوي في مواجهة جيش الاحتلال، ولا يكاد بيت فلسطيني لا يحفظ مثلها عشرات الحكايات القصيرة. وهي حكايات في غالبها تُعزز روح البطولة وتزرع الشجاعة والفخر في نفس المُستمع لها.