شبكة قدس الإخبارية

فلسطين هي الهوية وحديث عن "البطاقة الزرقاء"

هنادي قواسمي

بطاقات هوية تمشي على الأرض، هكذا أتخيل الفلسطينيين أحياناً لفرط حديثنا عن “الهويات”، كلٌّ يحمل بطاقة هويته فوق رأسه ويمشي بها بين الناس، تختصر عليه الكثير من التعريفات، تُنبّىء البعض بماضيه وحاضره،بل وربما بمستقبله، في هذه الحال، لا يهم فقط من أين أنت، أو أين وُلِدت، من أي مخيم أو قرية أو مدينة، لكن الأهم هنا: ماذا يوجد في جيبك؟ ليس من المال، إنما من الأوراق!.

“ايش هويتك”، سؤال يسأله الفلسطينيون لبعضهم أويُسألونه من غيرهم، هو من ألف باء التعارف بين الناس هنا، سأحدثكم هنا عن “هوية القدس”، أو ما يُسمى الهوية الزرقاء، تلك التي “تلمع” وسط حقيبتي.

يقول “القانون” هنا أنه يجب أن أحصل عليها عند بلوغ السادسة عشر، يتم ذلك بالوقوف في صف طويل أمام وزارة الداخلية “الإسرائيلية”، يبدأ من ساعات ما قبل الفجر، ولا ينتهي إلا مع العصر، فيه من الذل ما يكفي ويزيد للتوزيع على شعوب العالم، بلغتُ السادسة عشرة ولم أفلحفي الحصول عليها، الصف طويل جدا والفصول بتتابعها وبردها وحرها تزيد المهمة المستحيلة نكداً، وأخيراً بعد سبعة أشهر، ومتأخرة عن رفيقاتي في المدرسة حصلت عليها، هي الآن بين يدي! أصبح عندي الآن “بندقية”.. بطاقة هوية!.

كنا في المدرسة بين حالين اثنتين، إما أن نفخر ببطاقات الهوية لكونها تحمل صورة شخصية جميلة خرجت كما تمنينا، أو نتوارى عن إظهارها ونقول الصورة بائسة، وكنت من الفريق الثاني، كنتُ أكره الصورة بل وأكره البطاقة نفسها، لم أفهم وقتها ما تحمله هذه البطاقة من خفايا ومعانٍ، ولكنني كنت أتثقل من حملها، وأشعر أنها شيء “عظيم” يجب أن أعتني به، وذلك لكثرة الوصايا التي أتخمت آذاننا.. “ديري بالك على هويتك”.. “إوعك اتضيع هويتك”.. “ما تحطيها بهذه الجيبة بتوقع.. أو مثلاً يأتينا التوبيخ “كيف بتطلعي من الدار بدون هوية!”.. توبيخ ينبع من الخوف أن يفاجئك جندي أو حاجز في الطريق يسألك بالعربية المكسرة: “هاااوية.. هاااوية”.

ولا أنسَ أيام الانتفاضة الثانية، عندما كنا نركب المواصلات العامة فيسألني السائق قبل أن أضع رجلي داخل السيارة: “هوية قدس يختي؟”، هنا الهوية تحدد مصيرك إن كان سائق المواصلات العامة سيسمح لك بالركوب أم لا، فمع بداية الانتفاضة فرضت على أهل القدس عقوبات وغرامات عالية إذا حملوا في سياراتهم فلسطينيين ببطاقات هوية فلسطينية (ضفة)، مما أجبر كثيرين على الحيطة حتى لا يقطع رزقهم وتأسر حرياتهم (للتوضيح: يسمح للمقدسيين حملة الهويات “الاسرائيلية” بدخول كافة الأراضي الفلسطينية المحتلة سواء داخل الضفة أو المناطق المحتلة عام 48، ما عدا غزة، بينما لا يسمع لحملة الهويات الفلسطينية إلا بالتجول داخل الضفة الغربية، مع وجود الكثير من الحواجز العسكرية التي تعيق حركة الفريقين).

وهكذا بدأت معاني هذه الهوية وملامحها تتضح أمام جيلي، فلم تعد القضية فقط صورة جميلة كما نشتهي فحسب، لا أستغرب بعد ذلك شعوري الطفولي بالحرية عندما عشت في بريطانيا وأدركت أنه يمكنني الخروج من البيت للمشي في المنتزه القريب وأن أترك بطاقة التعريف بي في البيت مرتاحة!.

إذن فما هي هوية “القدس”؟

هي بطاقات الهوية الشخصية “الإسرائيلية” الزرقاء اللون التي يحملها العرب من سكان القدس المحتلة، ولا يحملها أحدٌ غيرهم من الفلسطينيين، وقد فرضت هذه الهويات على أهالي القدس الشرقية بعد احتلالها عام 1967، تعطي بطاقة “هوية القدس” حاملها المقدسي صفة “المقيم الدائم” في “إسرائيل”.. فجأة تحوّل المقدسي المزروعة جذوره في القدس منذ سنين طويلة خلت من “ابن البلد” إلى “حامل الإقامة “الإسرائيلية” الدائمة”.

عادة ما نسأل هنا – نحن أهل القدس – إذن ما الفرق بينكم وبين أهالي الداخل الفلسطيني ، أهالي الـ 48؟.. أهالي 48 يحملون مثلنا بطاقات هوية “اسرائيلية”، ولكنهم يحملون كذلك ما لا نحمله.. جواز سفر “اسرائيلي”، الفرق أنهم “مواطنون إسرائيليون”، ونحن “مقيمون إسرائيليون”، أي أنهم يحملون “الجنسية الإسرائيلية” التي فرضت عليهم بعد قيام دولة “إسرائيل” عام 1948، بينما نحن لا نحمل تلك الجنسية، ولا نحمل أي جنسية رسمية في العالم بالمعنى الكامل للجنسية.

كيف نسافر إذن؟ وما نوع الجوازات التي نحملها؟

كم نحن محظوظون! فلدينا نوعان من بطاقات السفر Liassez passé: أردني وإسرائيلي، الأردني حصلنا عليه لأننا كنا تحت حكم الأردن في الفترة الواقعة ما بين النكبة والنكسة (1948-1967) وبقيت بطاقات السفر هذه معنا حتى بعد احتلال الضفة الغربية.

هي لا تعني أننا أردنيون، فنحن لا نحمل الجنسية الأردنية ولا نتمتع بحقوق المواطنة الأردنية، ولكنها مجرد بطاقات سفر نجددها كل خمس سنوات، ونسميها أحياناً “جواز أردني بدون رقم وطني” أي جواز أردني لا يعني المواطنة.

إضافة إلى الأردني يحمل المقدسي “بطاقة سفر إسرائيلية” تجدد كل عامين، وهي “بطاقة سفر” وليست جوازا، أي لا تعطي لحاملها حقوق المواطنة، ماذا يعني ذلك للمقدسي؟.

يعني أنني كمقدسية لست مواطنة في “دولة اسرائيل”، ولا تجب علي كافة حقوق المواطنة وواجباتها، فمثلاً لا يحق لي الانتخاب في الكنيست لعدم كوني مواطنة، ولكن تنطبق علي شروط التأمين الوطني والصحي “الإسرائيلي”.

كمقدسية مقيمة في القدس – حسب تعريفهم – لا يحق لي الغياب عن البلاد الفترة التي أشاء فهي ليست “وطني” وانما “مكان اقامتي”، يعني ذلك أنني ملزمة على البقاء في القدس لأحافظ على “حقي” الذي منحوني إياه كرماً منهم بالإقامة فيها!.

بمعنى أنك يا حضرة المقيم المحترم، إذا أردت أن تبقى في القدس ولا نحرمك من الدخول إليها، عليك أن تبقى مقيماً في حدودها، وأن لا تبعد عنها كثيراً، وإذا شكّت “السلطات” أنك مقيم خارجها لفترة طويلة وتكسب رزقك من خير بلاد غيرها ستُهددك بسحب الإقامة منك، ولن تجددها لك إلا بعد توفير أوراق لا نهاية لها تثبت وجودك فيها، وساعتها “دبّر راسك”!.. بينما يحق للإسرائيلي المواطن أن يصول الكون ويجول، يرحل متى شاء ويرجع متى شاء.. فالبيت “بيته”، أما القيود فهي صفة حال الضيوف العرب!.

ماذا يترتب على هذه “الإقامة”؟

القضية أعمق وأعقد من أشرحها لك في مقال واحد، والحالات التي مر بها المقدسيون كثيرة وفي كل مرة هناك قانون جديد، وتفصيل معقد، لذلك لن ألومك إذا لم تدخل عقلك هذه المعلومات، فقد استصعبتها أنا نفسي! لكني أُجملها لك ببعض الأمثلة لعل الحياة هنا تتضح لك أكثر:

* إذا كنت مقدسياً وخرجت للتعلم في الغرب وقضيت سنوات طويلة هناك في طلب العلم وربما العمل، واكتشفوا أمرك قد تُهدد بسحب إقامتك ومنعك من دخول فلسطين.

الحجة: ما دمت يا حضرة المقدسي مقيماً في الغرب ولك مصدر دخل هناك إذن فما حاجتك للإقامة في “بلادنا”، على مبدأ “عدم ازدواج الإقامات”.

* إذا ثبت أن المقدسي حصل على جنسية بلد ما يُهدد بسحب إقامته في القدس، لنفرض مثلاً أن مقدسياً ما هاجر إلى أمريكا وحصل بالزواج على جنسيتها، ورجع إلى البلد واكتشف أمره يتم تخييره إما أن يتخلى عن جوازه الأمريكي أو يتخلى عن هويته “الإسرائيلية”، فإن أراد أن يبقى محافظاً على إقامته في القدس عليه أن لا يسعى للحصول على أية جنسية.

* إذا سكن المقدسي خارج حدود بلدية القدس الاحتلالية، لو سكن مثلاً في مدينة رام الله أو الخليل، ولم يفلح في تقديم أوراق رسمية (كفواتير الكهرباء والمياه والضرائب) التي تثبت أن له بيت في القدس يعيش فيه، يهدد بسحب بطاقة هويته!.

بمنطق: ما دمت تعيش خارج “القدس” فما حاجتك للإقامة “الإسرائيلية”؟!.. فلتذهب وتسكن في الضفة وابق هناك! لذلك تجد الكثير من المقدسيين يملكون بيتين، بيت واسع ومريح في منطقة الضفة يعيشون فيه، وبيت ضيق لا يكفيهم في القدس يزورونه من حين لآخر، ويحافظون عليه ليكون دليلاً أمام “إسرائيل” على استمرار وجودهم في القدس.

* بعض المقدسيات اللواتي تزوجن من فلسطينيين لا يحملون الهوية الإسرائيلية أو تزوجن خارج البلاد، وانتقلن للعيش خارجاً فقدن حق الرجوع إلى القدس، وإذا لم تفقد الزوجة الهوية في هذه الحالة فإن أضعف الإيمان أن لا يحملها أبناؤها، فالمقدسية التي تتزوج في الأردن مثلاً وتعود لزيارة أهلها كل صيف، لن تصحب أطفالها معها بعد سن الخامسة إلا إذا حصلوا على فيزا اسرائيلية تسمح لهم بالدخول. الأمر الذي جعل البعض يرفع شعار :الجواز قبل الزواج!

والقائمة أعلاه إن أردت إطالتها فستطول، ولكني تذكرت أن هدف هذا المقال ليس “البحث القانوني” المفصل، فهذا يحتاج كتباً لتروي وقصصاً لا تنتهي، ولكنها حالة تعبيرية.. تريد أن يصل صوتها، وأن تؤكد أنها هنا.. لن ترحل.

أودعكم بموقف بسيط أربكني قبل أيام، عبأتُ بعض الأوراق الرسمية للاستخدام المحليّ، وكان السؤال: ما جنسيتك؟ نظرتُ إلى أخي الجالس بقربي أحرك رأسي: شو أكتب؟ أردنية؟ قال لي مرتبكاً: لا لا فلسطينية.. صمتُ قليلاً ، قلت في عقلي: كيف يعني فلسطينية؟ أين هو الورق الرسمي الذي يقول أنني فلسطينية؟ أردتُ أن أجادل ولكني آثرتُ السكوت حينها.. وقلت: أَي هي فارقة؟؟! قد تهم الأوراق كثيراً أمام بوابات الحدود والحواجز وعلى مكاتب المسؤولين، لكنها قد لا تهم بقدر الأفكار المُحركة والعقول والقلوب المؤمنة بالحق، لا تهم بقدر ما تهم المواقف والمشاعر والانتماءات، والأفعال.

*سبق نشر هذه التدوينة في موقع الجزيرة توك.