شبكة قدس الإخبارية

"الفلافل" ... سِيَر ذاتية

د. أسامة الأشقر

يغتاظ المرء من فعل الغزاة وطبائعهم اللئيمة في الاستئثار بكل ما هو لك، فلا يكتفون باستلاب وطنك، بل بنزع مظاهر انتمائك واتصالك بثقافة هذا الوطن وشعائره المجتمعية في التراث الملبوس والمطعوم فيجعلون طعامك الشعبيّ المفضّل طعامهم القوميّ!

إن الفلافل اليوم ليست طعاماً وطنياً فحسب بل إن رائحة الزيت الذي تقلى فيه رائحة وطنية ونكهة وطنية ذات مذاق عربي أوسطيّ عريق، بل إن الالتزام بأكلها وصناعتها على أصولها في البيت مما يجعلنا بأمان من الاستلاب الثقافي، وإن كنتُ أخشى عليها من تسلل المايونيز إليها بدل الطحينة أو الحمص المطحون!

المصريون جعلوها طعام الأقباط الصائمين عن اللحم، وبالغوا فأرجعوها إلى عصر فرعوني واحتجّوا بأنها كلمة ثلاثية  "فا -لا –فل" أي ذات الفول الكثير، ولكننا لم نجد نقوشاً تصويرية لهذا الـ (فا لا فل)، كما أن الاسم الشائع قديماً للفلافل في مصر طعميّة، وليس فلافل، مما يعني أن الكلمة وافدة طارئة، وأن التفسير متكلّف، بل إن كلمة الطعمية ذاتها محْدَثة طارئة! ولِمَ لا يكون معنى الفلافل الفرعونية هذه الكثيرة الفول هي الفول نفسه بطبقه العامر المُكتنِز! لاسيما أن جنوب الوادي في القطر السوداني وهم ذوو علاقة قديمة بالتراث الكوشي والنوبي الفرعوني اليوم يصنع الفلافل أو الطعميّة من "الكَبْكَبيه" أي الحمص وليس الفول، بل إن الفول المصري نفسه لم يكن معروفاً في القرون الخالية لتراث المطعومات السودانية

في الشام يقولون إن الفلافل هي الكُبّة الشامية الشهيرة، لكنها خالية من هبرة اللحم، وتكون طعام الفقراء العاجزين عن شراء حشوة اللحم فيها، ويُكتفَى بمزيج الدهن في خلطتها، وكانوا يشوونها على الصاج، ولا ندري الزمان الذي تحوّلت فيه إلى القلي بالزيت، وأحسب أن تتبّع مسيرة دخول زيت الذرة إلى ديارنا، وكيف بدأ استخدامه، وهل كان للجيوش الغازية الأجنبية دور في انتشارها، قد يحلّ هذا الإشكال!

ولعل مدينة عكّا الفلسطينية الساحلية تحلّ لنا هذا الإشكال فهي مشهورة بلقبها القديم "أم الفلافل" فهذه الشهرة لا تأتي من فراغ، وهي المدينة التي وقف على أسوارها الغزاة طويلاً في حصارها، وكأنهم كانوا يقتاتون بما يتبقّى في أهْرائهم ومستودعاتهم من البقول من طول الحصار، والطريف أن فلافل اسم عائلة مشهورة هناك، وما زالت عائلات عكا العريقة تدّعي أن أصل الفلافل عكاوي كنعانيّ، ثم نقله أهل صور وصيدا الذين كانوا يعملون في سواحل فلسطين إلى لبنان والشام كله، ويحكون عن فلافل العكاوي في صيدا، وفلافل صهيون "اسم عائلة فلسطينية" في صور، بينما يصرّ اللبنانيون أن أصل الفلافل فينيقيّ قديم!

وأما ضبط الطعمية: فبما أن الكلمة من معجم العوامّ كما يقول المعجميون المُحْدَثون فإن الشائع فيها فتح الطاء وتسكين العين، وأحسب أن كونها بضم الطاء أولى وأحسن، فنقول فيها: طُعْميّة أي مطعومة مأكولة يُغْتَذَى بها ويُقْتات.

من أين أتت كلمة الفلافل: القول الأول قول المصريين أن أصلها فرعوني؛ والقول الثاني أنها من امتزاج التوابل فيها لاسيما الفلفل الأبيض والفلفل الأسود؛ والقول الثالث أنها آتية من تشبيه أقراصها المدوّرة بتدويرات الشعر المفلفَل الشديد الجعودة، حتى إنهم كانوا يقولون عن الشَّعْر الجعد أنه فلافل.

وهناك رأي رابع عندي ولكن الذوقَ فيه قليل وهو أن أقراص الفلافل مأخوذة على التشبيه من أطْباء ضرع الناقة وحلْماتها وتلصق بالجلد، وتبقى جلدة الضرع تضرب بأسفل البطن، فتتفلفل الحلمات وتسودّ من أثر الهزال، يقول جرير: "طَوَى أُمّهَاتِ الدَّرّ حتى كأنّها ** فَلافِلُ هِنْدِيّ فَهُنّ لُصُوقُ"

ولكننا على كل حال لا نعلم الزمن الذي أطلق فيه على الفلافل هذا الاسم اللذيذ، ولا نجد له لفظاً لغوياً عربياً قديماً فيما وقفنا عليه!

وسبب شهرة الفلافل في طعمها المقرمش ولبّها الطريّ، وفي اندماجها مع المكوّنات من حولها بسهولة داخل الرغيف، وفي رخص أسعارها أيضاً، وربما صار الفلافل رمزاً للرخص بكل أنواعه المحبوبة والمذمومة!

وقد كان الفلافل في الأسواق الشعبية العامرة مما يجمع أسراب الفتيان اللاهين والبنات الساربات في مطاعم الشوارع، حتى قال فيهن بيرم التونسي متصابياً:

"بأبي وروحي اللابسات خلاخلًا ... الحاملات مقاطفًا ومناخلًا

الضاربات صدورهن تعجبًا... الآكلات مدمّسًا وفلافلًا"

وأهل مصر يجعلون الفلافل من بقول الفول، ويأكلون معه الفول المدمّس فيكون فطور الصباح ثقيلاً يعسر هضمه مما يجعل المرء في رهَقٍ ورغبة في الاسترخاء، وأهل الشام يصنعونه من الحمص وهو من البقول الثقيلة أيضاً لكنه أخفّ وطأةً من الفول؛ وبعضهم يخلط البقلتين معاً؛ وقد وجدتُ بعض البائعين في عربات الطريق على بعض السواحل يغشّون فيجعلون الفلافل من بقايا الخبز الناشف، يطحنونه ويجعلون فيه بعض الفول أو الحمص، وللأمانة فقد وجدتُه ألذّ طعماً وأكثر قرمشةً!

والفلافل مهنة الفقراء أيضًا، إذ يكفيك دكان صغير في زاوية ملحق بيتك أو تحت درج منزلك أو في عربة خشبية متحركة لتكون بائع فلافل!

ثم يتفنن الناس بمدارسهم في تشكيل الفلافل المدورة أو القلبية أو الموزية، ويتفننون في تتبيل الفلافل بأنواع الخضار كالبقدونس والكزبرة الخضراء والفلفل والبهار والملح، ولكن أكثر التفنن في شطيرته التي يحوطها الجمال الأخضر والأحمر بأنواع الخضار من البقدونس والخس والملفوف والطماطم وأنواع المخللات وعصرة الليمون أو مقليّ البطاطس والباذنجان كما في مصر، ثم لطشة الشطّة الحمراء أو الفلفل الأخضر الحار أو كبيس الفلفل الحرّاق، الذي يلفّ أدخنة أقراص الفلافل المهروسة على سطح السندويشة المدهونة بالحمص أو الطحينة!

وأما زيت الفلافل فخيره ما كان جديداً، وأمّا إذا قدم واحترق فإنه خطير على الصحة كما يقولون وقد يسبب السرطان، وقد بلغَنا أن بعضهم يشتري من مصانع الشيبس الزيت المدوّر ويعيد استخدامه في قلي الفلافل؛ ولكن براعة الحاجة جعلت من زيت الفلافل بنزيناً تدور به محركات السيارات في قطاع غزة، حتى تعشّقت رائحةُ الفلافل هواءَ القطاع المحاصَر فأنعشتْه.