شبكة قدس الإخبارية

صبحية سكيك.. مناضلة قديمة سُرقت مستحقاتها المالية

محمد سكيك

غزة - قدس الإخبارية: لم تشفع لها دقة الساعة الثانية صباحاً، خلال عام 1969، حينما داهم جنود الاحتلال أحدى منازل مدينة غزة ووقفوا بالعشرات داخل أروقته لتتقدمهم ضابطة تُلقب بـ"الشاويشة" وتنادي بأعلى الصوت "أين صبحية؟؟!!".

الحاجة صبحية سكيك "أم أحمد" اعتقلت من منزلها بعد أن ساعدت برفقة زميلتيها عايدة سعد، وخديجة الحلو بتنفيذ عملية وصفت بالخطيرة لأنها أودت بحياة الكثير من جنود الاحتلال.

الفدائية سكيك تروي لـ "قدس الإخبارية" قصة تضحية رويت بدماء التعذيب وخُتمت بالتهميش والسرقة دون تحديد هوية الفاعل حتى اللحظة، فتبدأ قصتها ملياً لتتنهد جثياً ويعلو صوتها المملوء بالقوة: "انضممت لمنظمة التحرير الفلسطينية فتح عام 1965م، وتم تدريبي عسكريًا دون علم أهلي".

من أجل الوطن

هجوم من قبل المُحتل على مدارس الفلسطينيين واعتقالات وفق أهواء الاحتلال، الفدائية سكيك تروي لـ"قدس الإخبارية" بداية انخراطها بمناهضة ومقاومة الاحتلال، "خلال المرحلة الثانوية لم يكن لدي أي اتجاه فكري إلا عندما جاءت المنظمة التي وجدت لمقاومة الاحتلال من هنا أحببت الفكرة، ومن هنا بدأ مشواري الجهادي".

جلست تفكر ملياً وفجأة سالت دمعتها مكملة حديثها، "أخي الأصغر نجيب كان ينتمي لهذه للمنظمة، وحبنا للوطن وديننا وأرضنا هو من شجع الانتماء، أمي وأبي علمونا الإخلاص، والعطاء، الاعتماد على النفس".

فيلم جميلة ابو حريد وخطابات الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر كانا النموذج الأكبر لتفعيل دور المرأة في النضال والجهاد، وبث روح العزم للمناضلات الفلسطينيات اللواتي شاركن الرجال همهم في تحرير الوطن.

التخطيط للعملية

وتضيف سكيك لـ "قدس الإخبارية"، "خلال مرحلة تدريبي على الأعمال الفدائية وضعت القنابل في شنطة مدرستي بدلاً من الكتب الدراسية لإبعاد الشكوك عني، وفي تلك الفترة خططت لعملية فدائية وبدأت مع رفيقاتي بتنفيذ الخطة". "نقلنا القنابل وكافة الذخائر لتنفيذ العملية إلى مكان المقصود، ومن ثم أكملت رفيقتي سعد دورها فتسللت لحي الشجاعية، ونجحت باتمام مهمتها، وتمكنت من ايقاع العديد من القتلى في صفوف جنود الاحتلال". نُفذت العملية وألقي القبض على عايدة وخضعت لمحاكمة وحكم عليها بالسجن 12 سنة، لكنها خرجت بعد صفقة تبادل مع المحتل بعد نحو 6 أعوام . أما صبحية فتلك الليلة لم تنسها، بعد أن كُبلت يداها، وأسدل الغطاء على عينيها، ونُقلت إلى حيث لا تعرف هيَّ ولا أهله أين، واستمر الحال على ذلك طيلة شهرين، ليسترشد الأهل بعدها على مكان احتجاز أول امرأة غزية تؤسر من بيتها وتسجن داخل أحد سجون الاحتلال.

رحلة التحقيق

ليلة التحقيق الأولى كانت ليلة شتاءٍ جديد، وضعت فيه المناضلة سكيك في ممرٍ محاط بصوت المياه، وإذ بالسجانة "مظل" تطل عليها لتقول بصوت يملأه الاستهزاء "الليلة ليلتك" ووضعتها داخل الزنزانة.

"في اليوم التالي أخرجني المحققون من الزنزانة، لتبدأ حكايا التعذيب ومحاولة نزع الإعتراف، حاولوا أن يأخدوا مني أي معلومة، لكني أنكرت كل شيء، ولا يوجد على لساني غير كلمة ما عملت، والإنكار أطال فترة اعتقالي"، تروي سكيك لـ "قدس الإخبارية".

"استمر التعذيب.. ضرب، وشد للشعر، كدمات على الجسد، واستهداف المعدة ذكريات مؤلمة جدًا كان لها لذة وشعور خاص بالانتصار ملؤه الفخر وفحواه الصبر لأنها التضحية من أجل الوطن".

محكمة صغيرة

استبدل الاحتلال خريطة فلسطين بما يسمى "إسرائيل" وأجلسوا المناضلة سكيك بالمحكمة ليبدأ سؤالها عن سبب فعلها ذلك، لكن مرارة المشهد ورؤية الخريطة مغيرة الوقائع أوقعتها بالاعتراف الخاطئ الذي أعادها للزنزانة مرةً أخرى.

"عاد التعذيب، وبعض الأحيان وضعوا الكلاب أمامي للتأثير نفسياً علي، كانوا يضربون رأسي بالحائط إلى حد الإغماء، ربطوا يداي بعصا، وضعوني تحت المياه الباردة لأستيقظ ويعذبوني من جديد، واستمروا رغم مرضي حتى منعوا عني الدواء".

بعد معاناة جسيمة أنزل السجانون سكيك لطبيب السجن، وكانت منهكة تماماً وآثار التعذيب والتنكيل واضحةً عليها، مسكت الشاويشة بها لتنقلها بين كافة الأسرى في ممرٍ طويل به من يعذب وينكل ويصرخ وكانت تقول لها هؤلاء من لا يعترفون بما فعلوه.

غرفةَ فيها مشنقة وبئر فارغ كانت نهاية خط المشاة للمناضلة التي تُهدد بها لينزعوا منها أي اعتراف ضمني يؤخذ عليها، لتقول للشاويشة "هي موتة واحدة، وأمري كُله لله".

 

تكتم شديد

"لم نتعلم من خلال التدريب آليات التكتم أو التنكر للمعلومات ولم نتعلم سوى رمي القنابل وحمل السلاح، والشخصيات التي كانت مسئولة عن تدريبنا منهم من توفى، ومنهم ما زال حياً، وأنا لم أفصح عن أحد حتى الآن".

"بعد شهرين من التعذيب والتحقيق حضر لي محامي كلفوه أهلي بالدفاع عني وهو فايز أبو رحمة، بعد الاعتراف زاد التعذيب النفسي أكثر من الجسدي، وكانوا يهددوني بإحضار الأهل والوالد والوالدة ويهددونني بالاغتصاب لكنهم كانوا جبناء"، تضيف سكيك لـ "قدس الإخبارية".

استمرت رحلة المحامي وزيارات الأهل الشهرية كل مرة وسط انقطاع عن العالم الخارجي، إلى حين تلقيت وعداً من المحامي بطلب للصليب الأحمر بمحاولة المساعدة لإزالة الضرب والتعذيب مضيفةً "بالفعل جاء الصليب وطمئننا نوعا ما وجبلنا بطانيات".

"كانت كل أسيرة بغرفة عزل انفرادي، بداخلها طاقة صغيرة جدا جدا، لدخول أشعة الشمس، ولم يكن هناك سوى سطل لقضاء الحاجة، بعد ما تمت محاكمتنا وتعذبنا، جاء الصليب ليحل بعض القضايا منهم وجود مكان للاستحمام وغيره".

عصافير دون جدوى

الاحتلال حكم المناضلة سكيك بالسجن لمدة 7 سنوات، وبعد محاولة المحاميين قضت حوالي 4 سنوات من فترة حكمها، "تعلمت الصبر، طول البال، كتمان السر (..) أصبحنا نسمع بمصطلح "العصافير" لمحاولة التجسس داخل أروقة الحبس لكن تم كشف كل ذلك ولم ينجح الأمر معهم"، تقول سكيك لـ "قدس الإخبارية".

فرحة بالحرية

"لدى خروجي من السجن وجدت المحامي ينتظرني بسيارته وبصحبته أبي وإخوتي فكنت كما العروس يوم زفافها، وأبناء الحارة يقفون حول السيارة وطوال الطريق لم تتوقف زوامير السيارات عن التصاعد حتى وصلنا المنزل".

لدى وصولها لمنزلها جمعها لقاء بجميع أفراد عائلتها فكان كلوحة فنية تنطق بأسمى معاني الحب والجمال والحنين والشوق لاجتماع طال انتظاره، لم تتمالك نفسها وراحت دموعها تنهمر على وجنتيها لأنها رأت بأن اخوتها الذين تركتهم أطفالا أصبحوا شباب يافعين.

طعن في الظهر

"بعد سنوات عدة على خروجي من السجن جاء زوج أختي وأخبرني بوجود مستحقات لي، وأن كثير من المناضلين تقدموا لدى وزارة الأسرى بطلبات للحصول على حقوقهم".

"ذهبت إلى محمد الغزاوي وحصلت منه على ورقة تثبت بأنني من المحاربين القدامى، ولكنني عندما ذهبت لوزير الأسرى عبدالرازق وأعطتيه الورقة رماها بعيدا وقال لي أنا بعرفكوش فأحسست عندها بأنني تلقيت طعنة بسكين"، توضح لـ "قدس الإخبارية".

بصيص أمل مفقود

"في أحد الأيام جمعني لقاء بصديقتي الدكتورة مريم أبو دقة، وأخبرتني بدورها بوجود ملف لي يثبت بأن لدي مستحقات مالية بالأردن، وعليّ تقديم أوراقي الثبوتية للحصول عليها" .

" قمت بجمع كل ما يثبت أنني من الأسيرات وذهبت لأحد المقار التابعة لمنظمة التحرير وقدمت لهم الأوراق، ولكن نزل ردهم كالصاعقة وتسبب بسقوطي مغشيا عليّ، فأحد الأشخاص قام بتزوير أوراقي والحصول على مستحقتي من الأردن"، تبين سكيك لـ "قدس الإخبارية".

حاولت المسكينة جهادة أن تذهب لمن يقدم إليها المساعدة في معرفة الفاعل الذي اختفى هو ومستحقاتها لكن دون جدوى، وبعد صراع طويل اضطرت للاستلام لواقع أليم عصف بها.